فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

سورة ألم نشرح:
مكية.
وهي ثمان آيات.
وتسع وعشرون كلمة.
ومائة وثلاثة أحرف.
{بسم الله} الظاهر الباطن الملك العلام {الرحمن} الذي عمّ المخلوقين بالإنعام {الرحيم} الذي خص أولياءه بدار السلام.
وقوله تعالى: {ألم نشرح} استفهام تقرير، أي: شرحنا بما يليق بعظمتنا {لك} يا أشرف الخلق {صدرك} بالنبوّة وغيرها حتى وسع مناجاتنا ودعوة الخلق، أو فسحناه بما أودعنا فيه من الحكم والعلوم وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي كان يكون معه العمى والجهل.
وعن الحسن: ملئ حكمة وعلماً.
وقيل: إنه إشارة إلى ما روي أنّ جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صباه أو في يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيماناً وعلماً.
فإن قيل: لم قال تعالى صدرك ولم يقل قلبك؟
أجيب: بأن محل الوسوسة هو الصدر كما قال تعالى: {يوسوس في صدور الناس} (الناس).
وأبدلها بدواعي الخير فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب. وقال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة، والشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكاً أغار فيه وثبت جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، فإذا طرد العدوّ في الابتداء حصل الأمن وانشرح الصدر..
فإن قيل: لم قال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} ولم يقل: ألم نشرح صدرك؟
أجيب: بوجهين:
أحدهما: كأنه تعالى يقول لام بلام فأنت إنما تفعل جميع الطاعة لأجلي، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك.
ثانيهما: أنّ فيه تنبيهاً على أنّ منافع الرسالة عائدة إليك لأجلك لا لأجلنا.
واختلف في قوله تعالى: {ووضعنا}، أي: بما لنا من العظمة {عنك وزرك} فقال الحسن ومجاهد: حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية وهو قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} (الفتح).
وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو.
وقيل: ذنوب أمتك، وأضافها إليه لاشتغال قلبه بها.
{الذي أنقض}، أي: أثقل {ظهرك} قال أبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوّة والقيام بها حتى لا تثقل عليك وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي حتى يكاد يرمي نفسه من شاهق إلى أن جاءه جبريل عليه السلام، وأزال عنه ما كان يخاف من تغير العقل وقيل: عصمناك من احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوّة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر.
{ورفعنا}، أي: بما لنا من القدرة التامّة {لك ذكرك} روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يقول الله عز وجل: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، ومشارق الأرض ومغاربها.
ولو أنّ رجلاً عبد الله تعالى، وصدّق بالجنة والنار، وكل شيء ولم يشهد أنّ محمداً رسول الله لم ينتفع بشيء، وكان كافراً وقيل: أعلينا ذكرك فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود وكرائم الدرجات.
وقال الضحاك: لا تقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به.
وقال مجاهد: يعني التأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت:
أغرّ عليه للنبوّة خاتم ** من الله مشهور يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبيّ إلى اسمه ** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد

وقيل: رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله.
وقيل: عام في كل ما ذكر، وهذا أولى وكم من موضع في القرآن يذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة). وقوله تعالى: {ومن يطيع الله ورسوله فقد فاز} (الأحزاب). وقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (المائدة).
ولما كان المشركون يعيرونه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، ذكره ما أنعم الله به عليه من جلائل النعم، ثم وعده اليسر والرخاء بعد الشدّة فقال تعالى: {فإن مع العسر}، أي: ضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم {يسرا}، أي: كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يهمك، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا..
فإن قيل: إنّ مع للصحبة فما معنى اصطحاب العسر واليسر؟
أجيب: بأن الله تعالى أراد أن يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية القلوب.
وقوله تعالى: {إنّ مع العسر ويسرا} استئناف وعد الله تعالى بأن العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة، كقولك: للصائم فرحة، ثم فرحة، أي: فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب، ويجوز أن يراد باليسرين ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم أيام الخلفاء وقيل: تكرير.
فإن قيل: ما معنى قول ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود رضي الله عنهما: «لن يغلب عسر يسرين»، وقد روي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول: «لن يغلب عسر يسرين» أجيب: بأن هذا حمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء، وأنّ موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول عنه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر في قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات).
لتقرير معناها في النفوس، وتمكينها في القلوب، وكما تكرر المفرد في قولك: زيد زيد. وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف.
وإنما كان العسر واحد لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك: إنّ مع زيد مالاً إنّ مع زيد مالاً، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضاً.
وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر فقد تناول بعضاً غير البعض الأوّل بغير إشكال، أو بأن لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين فيها واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة فدائم غير زائل، أي: لا يجتمعان في الغلبة كقوله صلى الله عليه وسلم: «شهرا عيد لا ينقصان»، أي: لا يجتمعان في النقصان..
فإن قيل: فما معنى التنكير؟
أجيب: بأنه للتفخيم، كأنه قيل: إنّ مع العسر يسرا عظيماً وأي يسر.
روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه». وللطبراني عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان العسر في جحر لدخل اليسر حتى يخرجه». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية.
ولما عدد تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السابقة ووعده الآنفة حثه على الشكر والاجتهاد في العبادة بقوله تعالى: {فإذا فرغت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرغت من صلاتك المكتوبة {فانصب}، أي: انصب في الدعاء.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.
وقال الشعبيّ: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك.
وقال الحسن وزيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد عدوّك فانصب في عبادة ربك وصل.
وقال ابن حيان عن الكلبيّ: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب {استغفر لذنبك وللمؤمنين} (محمد).
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أكره أن أرى أحدكم فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.
{وإلى ربك}، أي: المحسن إليك بفضائل النعم خصوصاً بما ذكر في هاتين السورتين {فارغب}، أي: اجعل رغبتك إليه خصوصاً، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه.
وقيل: تضرع إليه راغباً في الجنة راهباً من النار عصمنا الله تعالى وأحبابنا منها بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتمّ ففرج عني» حديث موضوع. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك (1)}
معنى شرح الصدر: فتحه بإذهاب ما يصدّ عن الإدراك.
والاستفهام إذا دخل على النفي قرّره، فصار المعنى: قد شرحنا لك صدرك.
وإنما خصّ الصدر؛ لأنه محل أحوال النفس من العلوم، والإدراكات.
والمراد: الامتنان عليه صلى الله عليه وسلم بفتح صدره، وتوسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة، وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوّة، وحفظ الوحي، وقد مضى القول في هذا عند تفسير قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ} [الزمر: 22] {وَوَضَعْنَا عَنكَ وزرك} معطوف على معنى ما تقدّم، لا على لفظه، أي: قد شرحنا لك صدرك، ووضعنا...الخ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

أي: أنتم خير من ركب المطايا، وأندى...الخ.
قرأ الجمهور: {نشرح} بسكون الحاء بالجزم.
وقرأ أبو جعفر المنصور العباسي بفتحها.
قال الزمخشري: قالوا لعله بين الحاء، وأشبعها في مخرجها، فظنّ السامع أنه فتحها.
وقال ابن عطية: إن الأصل (ألم نشرحن) بالنون الخفيفة، ثم إبدالها ألفاً، ثم حذفها تخفيفاً، كما أنشد أبو زيد:
من أي يوميَّ من الموت أفر ** أيوم لم يقدّر أم يوم قدر

بفتح الراء من (لم يقدر).
ومثله قوله:
اضرب عنك الهموم طارقها ** ضربك بالسيف قونس الفرس

بفتح الباء من اضرب.
وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم بـ: (لم)، وهو قليل جدًّا كقوله:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما ** شيخا على كرسيه معمما

فقد تركبت هذه القراءة من ثلاثة أصول، كلها ضعيفة: الأول توكيد المجزوم بـ: (لم)، وهو ضعيف.
الثاني إبدالها ألفاً، وهو خاص بالوقف، فإجراء الوصل مجرى الوقف ضعيف.
والثالث: حذف الألف، وهو ضعيف أيضاً؛ لأنه خلاف الأصل، وخرّجها بعضهم على لغة بعض العرب الذين ينصبون بـ: (لم) ويجزمون بـ: (لن)، ومنه قول الشاعر:
في كل ما همّ أمضى رأيه قدما ** ولم يشاور في إقدامه أحدا

بنصب الراء من (يشاور)، وهذه اللغة لبعض العرب ما أظنها تصح.
وإن صحت، فليست من اللغات المعتبرة، فإنها جاءت بعكس ما عليه لغة العرب بأسرها.
وعلى كل حال، فقراءة هذا الرجل مع شدّة جوره، ومزيد ظلمه، وكثرة جبروته، وقلة علمه ليس بحقيقة بالاشتغال بها.
والوزر: الذنب، أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية.
قال الحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل: المعنى حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية، وهذا كقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ثم وصف هذا الوزر فقال: {الذى أنقض ظهرك}.
قال المفسرون: أي أثقل ظهرك.
قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض، أي: صوت، وهذا مثل معناه: أنه لو كان حملاً يحمل لسمع نقيض ظهره، وأهل اللغة يقولون: أنقض الحمل ظهر الناقة: إذا سمع له صرير، ومنه قول جميل:
وحتى تداعت بالنقيض حباله ** وهمت ثواني زوره أن تحطما

وقول العباس بن مرداس:
وأنقض ظهري ما تطويت منهم ** وكنت عليهم مشفقا متحننا

قال قتادة: كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له، وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوّة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له: وكذا قال أبو عبيدة وغيره.
وقرأ ابن مسعود: {وحللنا عنك وقرك}.
ثم ذكر سبحانه منته عليه وكرامته فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك} قال الحسن: وذلك أن الله لا يذكر في موضع إلاّ ذكر معه صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي، فيقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله أشهد أن محمداً رسول الله.
قال مجاهد: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك} يعني: بالتأذين.
وقيل المعنى: ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، وأمرناهم بالبشارة به.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وعند المؤمنين في الأرض.
والظاهر أن هذا الرفع لذكره الذي امتنّ الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر، وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الله عزّ وجلّ أن من صلّى عليه، واحدة صلى الله عليه بها عشراً، وأمر الله بطاعته كقوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النساء: 59] وقوله: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7]، وقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31] وغير ذلك.
وبالجملة فقد ملأ ذكره الجليل السموات والأرضين، وجعل الله له من لسان الصدق، والذكر الحسن، والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده، {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: 21] اللَّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله عدد ما صلى عليه المصلون بكل لسان في كل زمان، وما أحسن قول حسان:
أغرّ عليه للنبوّة خاتم ** من الله مشهور يلوح، ويشهد

وضم الإله اسم النبيّ مع اسمه ** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود، وهذا محمد

{فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا} أي: إن مع الضيقة سعة، ومع الشدّة رخاء، ومع الكرب فرج.
وفي هذا وعد منه سبحانه بأن كل عسير يتيسر، وكل شديد يهون، وكل صعب يلين.
ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريراً وتأكيداً، فقال: مكرّراً له بلفظ {إِنَّ مَعَ العسر يسرا} أي: إن مع ذلك العسر المذكور سابقاً يسرا آخر لما تقرّر من أنه إذا أعيد المعرّف يكون الثاني عين الأوّل سواء كان المراد به الجنس أو العهد، بخلاف المنكر إذا أعيد، فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأوّل في الغالب، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في معنى هذه الآية:
«لن يغلب عسر يسرين» قال الواحدي: وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمفسرين على أن العسر واحد، واليسر اثنان.
قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين.
قيل، والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم، وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرّر.
قرأ الجمهور بسكون السين في {العسر}، واليسر في الموضعين.
وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو جعفر، وعيسى بضمها في الجميع.
{فَإِذَا فرغت فانصب} أي: إذا فرغت من صلاتك، أو من التبليغ، أو من الغزو، فانصب، أي: فاجتهد في الدعاء، واطلب من الله حاجتك، أو فانصب في العبادة.
والنصب: التعب.
يقال: نصب ينصب نصباً، أي: تعب.
قال قتادة، والضحاك، ومقاتل، والكلبي: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة يعطك، وكذا قال مجاهد.
قال الشعبي: إذا فرغت من التشهد، فادعو لدنياك وآخرتك، وكذا قال الزهري.
وقال الكلبي أيضاً: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب أي: استغفر لذنبك، وللمؤمنين والمؤمنات.
وقال الحسن، وقتادة: إذا فرغت من جهاد عدوّك، فانصب لعبادة ربك.
وقال مجاهد أيضاً: إذا فرغت من دنياك، فانصب في صلاتك، {وإلى رَبّكَ فارغب} قال الزجاج: أي: اجعل رغبتك إلى الله وحده.
قال عطاء: يريد أنه يضرع إليه راهباً من النار، راغباً في الجنة.
والمعنى: أنه يرغب إليه سبحانه لا إلى غيره كائناً من كان، فلا يطلب حاجاته إلاّ منه، ولا يعوّل في جميع أموره إلاّ عليه.
قرأ الجمهور: {فارغب} وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة: {فرغب} بتشديد الغين، أي: فرغب الناس إلى الله، وشوّقهم إلى ما عنده من الخير.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} قال: شرح الله صدره للإسلام.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: إن ربك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» وإسناد ابن جرير هكذا: حدّثني يونس أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد.
وأخرجه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج.
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق يونس بن عبد الأعلى به.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك} الآية، قال: لا يذكر الله إلاّ ذكر معه.
وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، وحياله جحر، فقال: لو دخل العسر هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» فأنزل الله: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا} {إِنَّ مَعَ العسر يسرا}.
ولفظ الطبراني: «وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا إِنَّ مَعَ العسر يسرا}».
وأخرج ابن النجار عنه مرفوعاً نحوه.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه أيضاً مرفوعاً نحوه، قال السيوطي، وسنده ضعيف.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في الصبر، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود مرفوعاً: «لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه، فيخرجه، ولن يغلب عسر يسرين إن الله يقول: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا إِنَّ مَعَ العسر يسرا}» قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلاّ عائذ بن شريح.
قال فيه أبو حاتم الرازي: في حديثه ضعف، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرّة عن رجل عن عبد الله بن مسعود.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، والحاكم، والبيهقي عن الحسن قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فرحاً مسروراً وهو يضحك، ويقول: «لن يغلب عسر يسرين، {إِنَّ مَعَ العسر يسرا إِنَّ مَعَ العسر يسرا}» وهذا مرسل.
وروي نحوه مرفوعاً مرسلاً عن قتادة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا فرغت فانصب} الآية قال: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، واسأل الله، وارغب إليه.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال الله لرسوله: إذا فرغت من الصلاة وتشهدت، فانصب إلى ربك واسأله حاجتك.
وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن ابن مسعود: {فَإِذَا فرغت فانصب} إلى الدعاء.
{وإلى رَبّكَ فارغب} في المسألة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه: {فَإِذَا فرغت فانصب} قال: إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام الليل. اهـ.